قد حان أن أعترف لكم بشخصيتي الحقيقية، فأنا عبد فقير خدعته نفسه وزينت له سوء عمله، أنا العبد الفقير الذي يعترف بفقره لمولاه وباريه الذي لا غنى لي عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال؛ فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه، قال -عز وجل-: (فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "مَنْ كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه، ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظـة ونَفَـس، وأيضـاً فإذا عـرف حقارتها مع عظم قدر من خالقه؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛ يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به" وقال أيضاً: العبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إلى الله، لا يشعر بكثير منها، فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
أيها العبد الفقير: الفقرُ صِفةٌ ثابِتة في الإنسان، فالمؤمن فقير، والكافر فقير، والمُشرك فقير، والفاجر فقير، والعاصي فقير.. لكن السؤال: من هوَ المُفتقر؟ إنَّ الفقرَ الحقيقي -كما عرَّفه ابن القيم- هو دوامُ الافتقارُ إلى اللهِ في كُلِّ حال، بأن يشهَدَ العبدُ في كُلِّ ذرّةٍ من ذرّاتِهِ الظاهِرةِ والباطِنة فاقةً تامّةً إلى اللهِ تعالى من كُلِّ وجه، واعلم أنَّ أركان مرتبة الافتقار إلى الله أربعة -كما ذكرها العلماء- وهي: عِلمُ يسوسهُ، وورعٌ يحجُزهُ، ويقينٌ يحمِله، وذِكرٌ يؤنِسهُ، فلا افتقار بلا علم، يُعرِّفُكَ بحقيقة نفسك، وعظمة قُدرةَ اللهِ -عز وجل-، يجب أن تعلمَ أنَّ الأمرَ كُلَهُ بيدِ الله، يجب أن تعلمَ أنهُ ما من حركةٍ ولا سكنةِ إلا بيدِ الله -عز وجل-، ما من إنسان إلا وفي قبضةِ اللهِ -عز وجل-! ولا افتقار بلا ورع يمنعك عن الوقوع في المعاصي مُتناسياً حقيقة نفسك، ولا افتقار بلا يقين يُثبتك ويقوي عزيمتك، ولا افتقار بلا ذكر لله يؤنس وحشتك! ومن لوازم المفتقر إلى الله -عز وجل-: أنه ليسَ حريصاً على شيء ليسَ في يديه، وليسَ منهَمِكاً في شيء بينَ يديه، لا الشيء الذي بينَ يديه يشغَلُهُ عن الله -عز وجل-، ولا إذا افتقدَ هذا الشيء يشغَلُهُ عن الله، يعني وجودُ الشيء وعدمُ وجودُهُ سَيان عِندُهُ، ومن سمات المفتقر: أن تستغني بالله، وأن تستغني عن غيرِ الله، فالذي يطمَعُ بِما في أيدي الناس، ليسَ مُفتقِراً إلى الله -عز وجل-! أحدُ الخُلفاء العباسيين كانَ يَحُجُ البيت، فالتقى بعالِمٍ جليل في الحرمِ المكيّ، قالَ لهُ: سلني حاجَتَك، قال لهُ: واللهِ إني لأستحيي أن أسألَ غيرَ الله في بيتِ الله، فلمّا التقى بِهِ خارِجَ الحرَم، قالَ: سلني حاجَتَك، قالَ: واللهِ ما سألتها من يملِكُها، أفأسألُها من لا يملِكُها؟ فقالَ: سلني حاجَتَك، قالَ لهُ: أُريد أن أنجوَ من النار، فقالَ لهُ: هذهِ ليست بيدي، فقالَ لهُ: ليست لي حاجةٌ عِندَك.
ومن لوازِم الافتقارِ إلى الله: ألاّ ترى لكَ عملاً، بأن ترى عَمَلَكَ الصالح الذي أكرَمَكَ اللهُ بِهِ إنما هوَ محضُ فضلٍ من اللهِ -عز وجل-، فيصفو قلبك من العُجب بعملك وتنقطع نفسك عن التطلع لمدحٍ أو رياءٍ وسمعةٍ، والعبد مفتقر دائماً إلى حقيقة: (إياك نعبد وإياك نستعين) فلا تغره نفسه ولا يعتمد على ذكائه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات: لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرَح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة".
إنَّ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله على ربه -سبحانه وتعالى-، فالافتقار حادٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة.
نسأل الله تعالى أن يغنينا بالافتقار إليه.